عربي

قصة إنقاذ البرمجة لحياة لاجىء سوري تكشف التحديات التي تواجه المُبرمجين في المنطقة العربية

English

قصة إنقاذ البرمجة لحياة لاجىء سوري تكشف التحديات التي تواجه المُبرمجين في المنطقة العربية

منصات للتجارة الإلكترونية.. تطبيقات للتقنية المالية.. دردشة مع روبوت عن طريق الذكاء الاصطناعي يرشدك ويُسهل عليك إدارة عملك وتنسيق وقتك.. كل ذلك ما هو إلا نماذج بسيطة توضح الدور الحيوي الذي تقوم به صناعة البرمجيات من مُبرمجين وشركات ناشئة تعمل في البرمجة وتدريب المطورين ومهندسي الحاسب الآلي بمختلف تخصصاتهم، في الطفرة التكنولوجية التي حدثت بالمنطقة العربية خلال الخمس سنوات الأخيرة، فمن الطبيعي عندما نتحدث عن البرمجيات ومهندسي البرمجة قد يظهر لك الخير، ربما من الوهلة الأولى أن الأمر يبدو معقداً ويقترب من العقل ويبتعد عن العاطفة، إلا أن بعض التجارب في عالم البرمجة قد تُظهر لنا كيف يمكن أن يتضمن ذلك المجال قصص نجاح و تحدي للصعاب تخرج بنا من حسابات الأرقام والمعادلات المنطقية والرموز البرمجية إلى وجه آخر للشركات الناشئة التي تعمل في ذلك المجال، ليتضح لنا الجسر الذي يهمل البعض السير يه ويربط بين التأثير القوي لصناعة البرمجيات وتدريب مهندسي البرمجة على نمو وتطوير الشركات الناشئة التي تعمل في المنطقة العربية.

من المخبز لعالم البرمجة

هل تخيلت نفسك أنك ربما يوماً ما ستستيقظ من نومك لتجد أسرتك وبيتك ودراستك ووظيفتك وكافة علاقاتك أصبحت من الماضي، لتبدأ من جديد حياة مجهولة الهوية في بلد غريب وحيداً لا تعرف أين ستضع أولى خطواتك، وكيف ستحصل على قوت يومك خلال الساعات المقبلة!.. الأمر ليس بخيال لكنه واقع حدث ويحدث يومياً للبعض. 

"محمود السلمو" شاب في العقد الثالث من عمره كانت كل علاقته بالحاسب الآلي والبرمجيات عبارة عن الجهاز الذي يستخدمه في دراسته ويقضي عليه معظم وقته، فقد كان يعيش حياة هادئة بسيطة مع أسرته في سوريا ويدرس الاقتصاد بجامعة حلب، إلا أن القدر لم يجعل تلك الحياة الهادئة تستمر كثيراً فخلال عام 2013 بعد التطورات الدامية التي حدثت في سوريا اضطر للفرار إلى لبنان وترك دراسته وأسرته التي غادرت مُسرعة للخارج، ليتوجه وحيداً تائهاً لمدينة طرابلس اللبنانية ويبدأ حياته من الصفر.

يقول "محمود" بعد أكثر من سنتين على بدء الحرب في سوريا، وتحملي العيش في الخطر والجوع والعطش، وصلت إلى قناعة بأنه لا توجد حلول متبقية لاستكمال الحياة هناك، لذا قررت - ونظرًا لعدم حيازتي على جواز سفر - النزوح إلى لبنان، بسبب السماح للسوريين بعبور الحدود بشكل قانوني باستخدام الهوية الشخصية فقط، وكان أصعب قرار اتخذته ترك عائلتي وبدء رحلة النزوح منفرداً. في البداية، اعتقدت أن تلك التجربة ستكون لبضعة أشهر فقط، وكان هدفي الرئيسي إيجاد وظيفة لتوفير احتياجات أهلي في حلب، لكن بعد اشتداد المعارك هناك، لم أستطع العودة، وأهلي لم يستطيعوا القدوم إلى لبنان، لذا قاموا بالنزوح إلى تركيا، من خلال طريق مليء بالمشقة والمخاطر، مثل معظم السوريين.

واجه "محمود" العديد من الصعوبات في لبنان، حيث الظروف الاقتصادية معقدة والوظائف نادرة ومحدودة بسبب الكثافة الكبيرة لليد العاملة السورية النازحة، حتى حصوله على سكن لم يكن أمر سهل فاضطر للعيش مع شخص في سكن شبابي مجاني حتى يجد وظيفة، وكان يقوم بالأعمال المنزلية كتعويض عن المقابل المادي الذي يفترض أن يدفعه نظير المأكل والمسكن، بحث عن عمل بشكل متواصل لمدة أكثر من 3 أشهر، في البداية كان يبحث عن وظيفة في مجال تخصصه، ولكن بعد فقدان الأمل، بدأ البحث عن أي وظيفة متاحة، وبالفعل وجد عملاً في مخبز، وكانت هذه أول وظيفة يدوية يحصل عليها، استمر "محمود" في عمله الجديد لمدة 9 سنوات كاملة، كان يعيش بأقل قدر من المتطلبات المعيشية لتوفير نفقاته اليومية، حتى أنه لم يستطيع زيارة العاصمة اللبنانية بيروت إلا بعد مرور 5 سنوات من وجوده بالبلاد لأنه ببساطة لم يمتلك الوقت أو المال الذي يمكنه من ممارسة الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

 يتابع "محمود" قائلاً: "بعد توافر قدر من الأموال معي قررت الزواج ورزقني الله بابنتي لتكون هي كلمة السر التي غيرت حياتي كلها، فالأسرة تحتاج لمتطلبات معيشية وحياتية وكان يجب أن اتحرك أكثر من ذلك وأهدم الجبال إذا لزم الأمر، وذات يوم رأيت إعلان على أحد مواقع التواصل الاجتماعي قلب حياتي رأساً على عقب، وكان هو بعد الله السبب في بدايتي بعالم البرمجة والحاسب الآلي، فقد منحتني جامعة الشعب منحة لدراسة الحاسب الآلي والبرمجة كانت مُقدمة للاجئين، وبعد 6 أشهر من الدراسة أحببت هذا التخصص وبحثت عن طريقة للحصول على خبرة قبل إكمال دراستي ودخول سوق العمل، وبالفعل عثرت على SE Factory التي تقدم دورات مجانية في مجال علوم الحاسوب، سرعان ما تقدمت لهم وتم قبولي، وبعد إتمام دورتي التأسيسية والتي تركز على تعلم المهارات الأساسية، تم قبولي في دورة أكبر وأكثر تركيزًا على المهارات المطلوبة في سوق العمل كمطور برامج وتعلم بناء مشروع من الصفر، في هذه الفترة، كنت أدرس في الجامعة وأتابع دورتي وأعمل في مخبز في نفس الوقت، حيث كان يومي يمتد لمدة 22 ساعة متواصلة، لكنها كانت مرحلة مفصلية في حياتي، فلولاها لما تمكنت من تعلم هذا التخصص وتغيير مستقبلي".

بعد بحث شاق عثر "محمود" على فرصة تدريبية في شركة TalPods، حيث يقومون بتدريب المبرمجين المبتدئين في فريق تابع لهم، وبعد ذلك يقدمون لهم فرص تدريبية مع شركة متعاقدة معهم، قد تنتهي بالتوظيف بشكل عقد سنوي، بعد الانتهاء من مرحلة التدريب تلقيت عقد عمل من خلال TalPods للعمل كمهندس برمجيات مع شركة Calo.

يقول "محمود" عن تجربته في العمل مع TalPods: "كانت رائعة، ليس فقط لأنها أتاحت لي الفرصة للعمل مع شركة رائدة في مجالها، ولكن أيضاً لأنها ساعدتني على إثبات نفسي وتعلم المهارات المطلوبة في وقت قصير، ودفعتني للتطور بشكل مستمر. كنت أتلقى التوجيه من مرشدي بشكل دائم، كما تعلمت من خلالهم مهارات التواصل وحل المشاكل كما تعلمت مهارات تقنية جديدة، بالفعل تلك التجربة غيرت مجرى سير حياتي ونقلته من جانب مظلم لآخر مشرق به بصيص من الأمل".

عن تلك التجربة العملية الممتزجة بالجانب الإنساني يعلق "أمير جواد" مؤسس TalPods قائلا: "لفتت انتباهنا طموح "محمود" ورغبته الشديدة في السير للأمام وتحدي الصعاب، فطوال فترة وجوده معنا أثناء مرحلة المعسكر التدريبي وكذلك أثناء عمله في "كالو" ، كان من أبرز ما تميز به "محمود" هو شغفه بالأداء وخاصة مثابرته للنجاح في مواجهة أي عقبة، فهو هذا النوع من العزيمة الذي نبحث عنه، وهذا هو أكبر مؤشر على النجاح".

 يعتقد "أمير" أنه يجب أن يكون هناك في العالم العربي مسؤولية اجتماعية للشركات، تجاه من يمرون بظروف صعبة في المنطقة، يجب على رواد  الأعمال، الاستثمار في مثل تلك المواهب والاستفادة منها، بالرغم من الظروف المعيشية الصعبة التي قد يواجهها البعض فهم يتمتعون بالذكاء والإبداع والطموح، وبحسب تعبيره "إذا كانت العزيمة هي أفضل مؤشر للأداء والنجاح، فإن قصصهم ودوافعهم غالبًا ما تجعلهم من أكثر الأفراد تصميمًا وشجاعة على هذا الكوكب. إنه فوز لهم، لكنه فوز أكبر بالنسبة لك!"

معوقات في الطريق

لم تقف المعوقات التي قد تواجه بعض المُبرمجين عند الجانب الإنساني فقط بل امتدت للجانب المهني لتشمل صناعة البرمجيات في المنطقة، فإذا نظرنا للأمر عن قرب سنرى معادلة غريبة حيث أنه على الرغم من التحول التكنولوجي الذي غطى سماء المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة وتحول معظم العمل بها للجانب التقني وانتشار العديد من التطبيقات متعددة المهام التي تجعل هناك حاجة ملحة للاستعانة بشركة البرمجيات ومهندسي الحاسب الآلى والبرمجة إلا أنه تعترض سير بعض الشركات الناشئة التي تعمل في مجال البرمجيات وتدريب المبرمجين عدد من العقبات التي قد تحد من وتيرة نموهم وتمنعهم من مسايرة التطورات العالمية في المجال، بل بدأت بعض الشركات الناشئة الاستعانة بخبرات خارجية لسد العجز التقني المتزايد.

يستطرد "أمير" موضحاً أنهم قد أدركوا الصعوبات التي تواجهها الشركات عند توظيف مهندسي برمجيات من الدرجة العالية فقط، لذلك دشنوا برنامج يسمى "TopInterns" حيث يقومون بتدريب المواهب من خلال معسكر تدريبي لمدة 3 أشهر ثم وضعهم كمتدربين مع الشركات العميلة لديهم، بالرغم من أن المتدربين لم يكونوا كافيين لتلبية متطلبات الشركات الناشئة سريعة النمو، لذلك قاموا بدمجهم مع مهندسين ذوي الخبرة، حيث يقضي المهندسون الرئيسيون من ساعة إلى ساعتين يومياً في توجيه المواهب الشابة أثناء العمل، ومساعدتهم على تجاوز المشكلات المعقدة، وإشراكهم في البرمجة والتحقق من صحة التعليمات البرمجية الخاصة بهم، حيث أطلقنا على تلك العملية اسم "TalPod"، والذي أصبح المحور في نموذجنا وقد ثبت نجاحه في بعض الشركات الناشئة الأسرع نموًا مثل Floward و Calo كما رأينا في حالة "محمود".

يتفق "محمود" مع ذلك الأمر ويرى أن هناك بعض الشركات الناشئة التي تعمل في المنطقة العربية تستعين بمُبرمجين من الهند وباكستان للعمل عن بُعد لخبرتهم وقلة المرتبات التي من الممكن أن يقبلوها، وبالتوازي مع ذلك الأمر قد يعاني شباب المُبرمجين العرب من صعوبة الحصول على وظيفة، بالتالي تقل خياراتهم وسرعة تطورهم، وهو ما ينعكس بالسلب أيضاً على الشركات التكنولوجية بالمنطقة التي تبحث عن خبرات محلية وقد لا تجدهم، وهنا تتسع الفجوة بين المتاح من خبرات ومتطلبات السوق المتعطش لكل ما هو جديد ومُبدع.

يدعو "أمير" أصحاب المصلحة للاستفادة من إمكانيات الشباب العربي لأنهم يمتلكون الإبداع والطموح، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لتزويدهم بالمهارات اللازمة لتحقيق ذلك، وهو ما يجعل هناك فرصة ثمينة متاحة أمام الحكومات والشركات في المنطقة للاستثمار في قاعدة المواهب الغنية وإطلاق العنان للابتكار والإبداع.

الذكاء الاصطناعي

"نعمة أم نقمة؟".. سؤال حير العديد خلال الفترة الأخيرة، فهل ستؤثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي بالسلب على مستقبل الشركات التقنية ومهندسي البرمجيات في المنطقة العربية  أم العكس هو الصحيح؟

يوضح تقرير عن "التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط" نشرته مؤسسة PwC أنه قد بدأت الحكومات والشركات في جميع أنحاء الشرق الأوسط في إدراك أهمية التحول العالمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، حيث يواجهون الاختيار بين أن يكونوا جزءاً من التطور التكنولوجي، أو أن يتخلفوا عن الركب. عندما ننظر إلى التأثير الاقتصادي على المنطقة، فإن التخلف عن الحركة للأمام ليس خياراً، حيث من المتوقع أن يحقق الشرق الأوسط 2٪ من إجمالي الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي في عام 2030، وهو ما يعادل 320 مليار دولار، ومن المحتمل أن تتحقق أكبر المكاسب للمملكة العربية السعودية ليساهم الذكاء الاصطناعي بأكثر من 135.2 مليار دولار في اقتصادها خلال الـ 7 سنوات المقبلة، أي ما يعادل 12.4٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، كما أنه من المتوقع أن تشهد الإمارات أكبر تأثير لما يقرب من 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال نفس الفترة، حيث من المتوقع أن يتراوح النمو السنوي في مساهمة الذكاء الاصطناعي بين 20-34٪ سنوياً في جميع أنحاء المنطقة، مع أسرع نمو في الإمارات تليها السعودية.

من المهم أيضاً ملاحظة أنه في حين أن التقلبات في أسعار النفط تؤثر سلباً على الآفاق الاقتصادية للمنطقة، فإنها في نفس الوقت تزيد من حاجة الحكومات للبحث عن مصادر بديلة للإيرادات والنمو، فيمكن أن يؤدي تطوير القطاعات غير النفطية من خلال الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى وضع المنطقة بشكل استراتيجي في السنوات القادمة.

يصمت "أمير" قليلاً ثم يعود ويؤكد أنه من الصعب التنبؤ بنتيجة تأثير الذكاء الاصطناعي على صناعة البرمجة والمُبرمجين، لكنه يعتقد أن الكثير من الأمر في أيدينا، فإذا كنا سلبيين فيما يتعلق بتقدم الذكاء الاصطناعي بينما نفشل في تكييف مهارات موهبتنا، فستصبح حتماً عفا عليها الزمن. من ناحية أخرى، يمكن أن تكون التأثيرات إيجابية للغاية إذا استجبنا بالطريقة الصحيحة وتأكدنا من أن مواهبنا ستظل مناسبة. على سبيل المثال، يمكن للمطور استخدام GPT ونماذج لغة الذكاء الاصطناعي الأخرى لأتمتة جوانب معينة من مهامه، وترجمتها إلى إنتاج أسرع من وجهة نظر شركة ما، حيث يتطلب الأمر الآن عدداً أقل من المواهب للإنتاج بنفس السرعة أو نفس الكمية من المواهب لإنتاجها بشكل أسرع، وهذه الأخيرة هي النتيجة الأكثر احتمالية لأن طبيعة الأعمال عادة ما تبذل رأس مالها إلى الحد الأقصى من أجل الحصول على ميزة تنافسية، لذلك فإن الطلب على المواهب لا ينبغي أن ينخفض ، بل يجب أن يتحول إلى أولئك الذين يتمتعون بمهارات أفضل في تشغيل هذه الأدوات والاستفادة منها بأكثر الطرق فعالية. هنا يستكمل "محمود" الحديث موضحاً أن الذكاء الاصطناعي عامل مساعد للمطورين ولكنهم إذا لم يطوروا مهاراتهم ويرفعوا كفاءتهم فيمكن أن يؤثر على فرصهم الوظيفية بالسلب.

قد تكون صناعة المُبرمجين وشركات التقنية من أبرز العوامل والدفعات التي تمنح الشركات الناشئة في المنطقة العربية قوة وثبات خلال منافسة منتجاتهم في السوق العالمي، فمعظم الخدمات والعمليات التجارية الآن تعتمد عبر التطبيقات والمنصات التي تحتاج للتطوير السريع والتزود بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العالمية، لتكون لها القدرة على الصمود ومواجهة نظيرتها الخارجية لكن... يبقى السؤال هنا هل الظروف التي تعمل بها الشركات العاملة في صناعة المبرمجين وتدريبهم ومؤسسات التطور التكنولوجي تسمح بتحولهم من مجرد متلقي للتقنيات الحديثة من خارج المنطقة إلى مانح لها بل لمطور مُبدع ينافس بقوة في سوق التقنية العالمية؟.

Thank you

Please check your email to confirm your subscription.