English

فجوة المهارات تخفض قدرة المملكة على تعظيم مكاسب التحول الرقمى

English

فجوة المهارات تخفض قدرة المملكة على تعظيم مكاسب التحول الرقمى

استثمرت السعودية خلال الأعوام الماضية مبالغ ضخمة في إعادة هيكلة اقتصادها واستقطاب الشركات العالمية ورفع كفاءة القوى العاملة. إلا أن تقريرًا حديثًا لشركة بيرسون (Pearson) يسلّط الضوء على تحدٍ خفي يحدّ من أثر هذا التحول: التعثّر في مراحل الانتقال من التعلّم إلى العمل، وما يرافقه من فجوات واضحة في التطوّر المهني وإعداد المهارات

هذه الفجوات تكلّف السعوديين وحدهم نحو 62 مليار ريال خسائر سنويًا، وترتفع إلى 196 مليار ريال عند احتساب خسائر العمالة الوافدة — أي ما يعادل 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي تتبدد بسبب مسارات غير فعّالة بين التعليم وسوق العمل، والبحث المطوّل عن الوظائف وبطء برامج إعادة التأهيل.

وفي بلد يشكّل الشباب دون 35 عامًا 70% من سكانه، فإن المشكلة لا تتعلق بالاقتصاد فقط، بل تمس قدرة المملكة على المنافسة على المدى الطويل.

يشير تقرير بيرسون «Lost in Transition» إلى أن التعثّر في سوق العمل السعودي يحدث عبر ثلاث مراحل أساسية: دخول سوق العمل لأول مرة، والتنقّل بين الوظائف، والتكيّف مع التغيرات التقنية المتسارعة. ويوضح التقرير أن كل مرحلة تكشف جزءًا من خلل أكبر لا بد من التعامل معه حتى تستمر وتيرة التحول التي تستهدفها المملكة ضمن رؤية 2030.

الأتمتة: نصف الخسائر تأتي من هنا

بحسب التقرير، الاضطراب الناتج عن الأتمتة وحده يمثّل تقريبًا نصف الخسائر الإجمالية. ومع وجود 23% من الوظائف في السعودية معرّضة للتغيّر أو الاستبدال، يبقى بطء إعادة تأهيل العاملين مكلفًا جدًا.

بينما إذا تمكّنت المملكة من تقليص مدة إعادة التأهيل المهني بنسبة 20% فقط، يمكن أن تضيف للاقتصاد حوالي 6.3 مليار ريال سنويًا، أي ما يقارب 1.7 مليار دولار.

هذه هي اللحظة التي يلتقي فيها الواقع بالنظرية، فلا يوجد اقتصاد قادر على التعامل مع صدمات الأتمتة من دون منظومة سريعة ومرنة لإعادة تأهيل وتدريب العمالة. والسعودية لديها الطلب الكبير على المهارات الجديدة والاستثمار المتزايد في التحول، لكن سرعة التنفيذ هي ما سيحدد حجم المكاسب التي يمكن تحقيقها في السنوات المقبلة.

فجوة تبدأ مع الخريجين وتتسع مع العاطلين والشباب الداخلين للسوق

تبيّن بيانات التقرير أن سوق العمل السعودي يواجه دائرة متصلة من التعطّل تبدأ عند الخريجين الجدد وتمتد إلى العاملين الذين يفقدون وظائفهم، وتتفاقم مع نمو شريحة الشباب. فخريجو الثانوية والجامعات يقضون ما يقرب من 40 أسبوعًا في البحث عن وظيفة، وهي فترة طويلة موجودة في أسواق كبيرة أخرى، لكن أثرها في السعودية أكبر بسبب النمو السكاني وأهداف التوطين الطموحة في رؤية 2030، ما يجعل كل أسبوع بلا عمل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد. المشكلة الأساسية واضحة، وهي أن الجامعات والمعاهد التدريبية ما زالت تخرّج دفعات بمهارات لا تتوافق بالشكل الكافي مع الوظائف الرقمية والتقنية والتطبيقية التي يطلبها السوق اليوم.

لا يتوقف الأمر عند بداية المسار المهني، إذ يبقى العامل الذي يفقد وظيفته خارج سوق العمل لمدة تصل في المتوسط إلى 11.3 شهرًا، فيما يظل 40% من المتعطلين بلا عمل لأكثر من عام. هذه الفترات الممتدة لا تعني خسارة دخل فقط، بل تؤدي أيضًا إلى تراجع المهارات واتساع فجوة إعادة التأهيل وتراكم جزء من الخسارة السنوية المقدّرة بـ 62 مليار ريال.

ويزداد المشهد تعقيدًا مع دخول عدد متزايد من الشباب إلى السوق. فبطالة الشباب تقترب اليوم من 15%، ومن المتوقع أن ترتفع الفئة العمرية بين 20 و24 عامًا من 2.69 مليون في 2025 إلى 3.22 مليون في 2030. ومع هذا التدفق المتزايد، مقابل بطء انتقال الشباب من التعليم إلى العمل وضعف وتيرة التوظيف، تتسع الاختناقات الهيكلية في سوق العمل بشكل واضح.

ماذا يعني ذلك فعليًا لرؤية المملكة 2030؟

يمرّ سوق العمل السعودي بواحدة من أسرع موجات التحوّل عالميًا. لكن رغم هذا الزخم، لا يزال الرابط بين التعليم وأصحاب العمل والصناعة غير متماسك بما يكفي. فالمملكة تتحرك بسرعة لتوطين الوظائف في السياحة والخدمات اللوجستية والتصنيع والصناعات الإبداعية والتقنية، لكن خط الإمداد البشري لهذه القطاعات لا يسير بالإيقاع نفسه، ولا يعكس دائمًا احتياجات السوق الفعلية.

لهذا فإن خسارة 62 مليار ريال ليست نتيجة ضعف طموح — بل نتيجة عدم اتّساق بين ما ينتجه نظام التعليم والتدريب، وما يحتاجه أصحاب العمل. ولكي تحقق السعودية أهدافها في الإنتاجية والتوظيف، فهي بحاجة إلى تحول واضح من تعليم قائم على الشهادات إلى تعليم قائم على المهارات، ومن انتظار ظهور الوظائف وملئها إلى توقع احتياجات السوق وبناء مهارات القوى العاملة مسبقًا، ومن نموذج تعليمي خطّي تقليدي إلى منظومة تعلم مستمر وتحديث مهارات طوال الحياة العملية.

خطوات عملية لسدّ الفجوة سريعًا

تتوافق توصيات بيرسون مع ما تشير إليه تحليلات سوق العمل وما يطالب به أصحاب العمل في المنطقة. ويشير التقرير إلى خمس خطوات أساسية يمكن أن تغيّر المشهد بسرعة إذا تم تبنّيها بشكل منظم وواضح:

1. تحديد المهارات المطلوبة بدقة

السوق السعودي يتغيّر بسرعة، ومعه تتغير المهارات المطلوبة. امتلاك صورة دقيقة عن الوظائف والمهام والفجوات الحقيقية — بدل الاعتماد على تقديرات عامة — سيساعد الجامعات والشركات على تصميم برامج تدريب مرتبطة فعلًا باحتياجات السوق، وليس بمحتوى أكاديمي معزول.

2. تعزيز التعلم التطبيقي داخل التجربة التعليمية

لكي يدخل الخريجون السوق بسرعة، يحتاجون لتجربة العمل قبل التخرج. التدريب التعاوني وبرامج التدرّب المهني والإرشاد الصناعي يجب أن تصبح جزءًا ثابتًا من رحلة الطالب، لأنها تقلل فترة البحث عن وظيفة وتفتح أبواب التوظيف المباشر للخريجين.

3. تحديث المناهج لتلائم احتياجات السوق

كثير من المناهج لا تزال تسير بوتيرة بطيئة، في وقت تتغير فيه المهارات التي يحتاجها السوق بسرعة — خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والبيانات والحوسبة السحابية والتقنيات اللوجستية والتصنيع المتقدم والضيافة. لذلك لم يعد كافيًا تحديث البرامج كل بضع سنوات. المطلوب اليوم من الجامعات والكليات التقنية هو ربط برامجها بالصناعة بشكل مباشر لضمان جاهزية الخريجين.

4. توسيع فرص التدريب العملي المنظّم

الفجوة بين "آخر يوم دراسة" و"أول يوم عمل" يمكن تقليلها إذا توفرت شراكات واضحة بين الجامعات والشركات. بالنسبة لأصحاب العمل، التجربة العملية أكثر أهمية من الحفظ النظري، والتدريب الجاد يختصر نصف الطريق.

5. بناء منصة وطنية ترصد سوق العمل لحظة بلحظة

في النهاية، الفجوة بين العرض والطلب في جوهرها مشكلة بيانات. والسعودية في موقع ممتاز لمعالجتها عبر الاستثمار في منصات توفر رؤية لحظية للوظائف المتاحة والمهارات المطلوبة واتجاهات السوق، وجود مثل هذه المنصات لن يقلل فقط الفجوة بين العرض والطلب، بل سيوفّر للجامعات والطلاب وبرامج التدريب صورة واضحة ومباشرة عمّا يحتاجه السوق فعليًا، مما يجعل قراراتهم التعليمية أكثر دقة وارتباطًا بالواقع.

فرصة جيلٍ كامل

يُشير نسيم تفاحة، الرئيس التنفيذي للأعمال في "بيرسون"، إلى جوهر التحدي: "اقتصاد السعودية القائم على الشباب يمتلك إمكانات كبيرة، لكن التعثّر في الانتقال من التعلّم إلى العمل يكلّف المملكة 62 مليار ريال سنويًا، فيما يواجه نحو ربع الوظائف مخاطر الأتمتة".

هذا التقدير يعكس واقعًا واضحًا، فالمملكة تمتلك عوامل قوة معتبرة تمكّنها من بناء واحد من أكثر أسواق العمل ديناميكية في العالم — قاعدة شبابية واسعة واستثمارات كبيرة وتحول اقتصادي متسارع — لكن الاستفادة من هذه العوامل مرهونة بقدرة السوق على تسريع الانتقال من التعليم إلى العمل وبناء مهارات محدثة باستمرار. هذه المهارات الفعلية لا تقل أهمية عن الشهادات.

في هذا السياق، يصبح إصلاح مسار "التعلّم إلى الكسب" عنصرًا أساسيًا في رفع الإنتاجية وتحسين كفاءة سوق العمل، وليس مجرد سياسة تعليمية أو تدريبية.

الخلاصة

لا تواجه السعودية مشكلة مهارات بقدر ما تواجه مشكلة توقيت. فالأفراد يتعلمون بالفعل، لكن ليس في اللحظة التي يحتاج فيها السوق إلى تلك المهارات، ولا بالصيغة التي يطلبها أصحاب العمل. معالجة هذا الخلل يمكن أن تضيف عشرات المليارات إلى الإنتاجية، وتمنح الشباب السعودي حركة مهنية أوسع ومتوافقة مع مستهدفات رؤية 2030.

وتبقى النقطة الجوهرية أن المملكة تنفّذ واحدًا من أكثر برامج التحول الاقتصادي طموحًا عالميًا، ومرونة منظومة العمل في تطوير مهارات العمالة بالسرعة التي يتغير بها الطلب ستكون العامل الحاسم في استدامة هذا التحول وترجمته إلى نتائج ملموسة في السوق.

شكرا

يرجى التحقق من بريدك الالكتروني لتأكيد اشتراكك.