عربي

من النماذج التقليدية إلى المنظومات المتكاملة: مستقبل ريادة الأعمال في المنطقة

English

من النماذج التقليدية إلى المنظومات المتكاملة: مستقبل ريادة الأعمال في المنطقة

بقلم وائل جابر، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة  CLAN Investment

في السابق، كانت ريادة الأعمال تتركّز على حل مشكلة محددة أو تقديم خدمة محددة. وكان دور المؤسس في هذا السياق يتمثل في ابتكار منتج أو خدمة، ثم تأسيس شركة تقوم على هذا المنتج أو الخدمة والعمل على توسيع نطاقها. ورغم أن هذا النموذج لا يزال فعالًا في بعض المجالات، فإنه أصبح اليوم مُقيدًا لفرص النمو والابتكار.

في المقابل، يدرك اليوم رواد الأعمال الأكثر نجاحًا أن شركاتهم لا تعمل في عزلة، بل هي جزء من مشهد اقتصادي أوسع، مترابط وديناميكي، لا مجال فيه للعمل بشكل منفصل عن الآخرين. لذلك، لا بد أن يتجاوزوا التفكير المحصور داخل قطاع واحد، وأن يطوّروا نماذج أعمال تقوم على التعاون، والابتكار، والانفتاح على مجالات متعددة.

صعود التفكير التكاملي في ريادة الأعمال

بات على الشركات اليوم أن تتبنّى تفكيرًا أفقيًا، وأن تبحث عن فرص تتجاوز حدود قطاعها المباشر. ولنا في قطاع التكنولوجيا مثال واضح: فشركات كبرى مثل أمازون وآبل ومايكروسوفت لم تعد مجرد شركات تكنولوجيا، بل تحولت إلى منصات مترابطة تضم مجموعة من الخدمات والمنتجات والشراكات. على سبيل المثال، طوّرت آبل نموذجًا متكاملًا يقوم على ربط أجهزتها مع مجموعة متنوعة من الخدمات الرقمية والشراكات، بحيث تعمل جميعها بشكل متناغم لتقديم تجربة مريحة ومتكاملة للمستخدم. لم تعد الشركة تركز فقط على بيع الأجهزة، بل وسّعت نشاطها ليشمل متجر التطبيقات، وخدمات البث، والأنظمة المالية، وحتى خدمات تتعلق بتحليل البيانات الصحية. ومن خلال هذا النهج التكاملي، استطاعت آبل أن توسّع حضورها في السوق، وأن تبني نموذجًا أكثر مرونة واستجابة لتفضيلات المستخدمين المتغيرة.

التفكير التكاملي يُحفّز الابتكار

أحد أبرز مزايا التفكير التكاملي هو قدرته على تعزيز الابتكار. فعندما تتحرر الشركات من العمل داخل حدود مغلقة، يمكنها الوصول إلى مجموعة أوسع من الأفكار والتقنيات، مما يفتح الباب أمام حلول إبداعية واستجابات مرنة للتحديات. وهذا التفاعل بين مجالات مختلفة كان محركًا أساسيًا لنجاح العديد من الشركات الحديثة. لنأخذ كمثال صعود صناعة السيارات الكهربائية، التي تقوم على التعاون بين قطاعات متعددة مثل السيارات، والطاقة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية. وقد استفادت شركات رائدة مثل تسلا من هذا الترابط، إذ لا تقتصر أنشطتها على تصنيع السيارات فحسب، بل تشمل أيضًا تطوير برمجيات القيادة الذاتية، وبناء محطات الشحن، وابتكار حلول لتخزين الطاقة. هذا التكامل الشامل أتاح لتسلا فرصًا واسعة للابتكار تتجاوز حدود صناعة السيارات التقليدية. ويُظهر نجاحها أهمية التفكير خارج نطاق القطاع المباشر، والبحث عن الفرص في القطاعات المجاورة.

وفي منطقتنا، يُعد توسّع شركة "كريم" في دبي مثالًا حيًّا على التفكير التكاملي. فقد بدأت كخدمة لحجز السيارات، ثم تحوّلت إلى تطبيق شامل يقدّم خدمات متعددة، من توصيل الطعام إلى المدفوعات الرقمية والتمويل الصغير. يعكس هذا التحوّل انتقال الشركة من التركيز على النقل فقط إلى بناء منظومة مترابطة تلبي احتياجات المستهلك اليومية، مما جعل منها منصة للابتكار قادرة على مواكبة تطوّر السوق.

نحو نماذج أعمال مترابطة بين القطاعات

لكي يتحقق تبني التفكير التكاملي فعليًا، يجب على المؤسسين أن يطوّروا نماذج أعمال تُشجّع على التعاون بين مختلف القطاعات. ويعني ذلك دمج تقنيات وخدمات متكاملة تدعم بعضها البعض، ما يتيح للشركات فرصًا جديدة للنمو والتوسّع. ومع إدراك أن النجاح لم يعد ممكنًا في عزلة، ستزداد أهمية الشراكات العابرة للقطاعات والمشاريع المشتركة والتحالفات الاستراتيجية.

وفي الشرق الأوسط، نشهد بالفعل توجهًا واضحًا نحو دمج القطاعات. أحد أبرز الأمثلة هو التعاون بين قطاع العقارات والتكنولوجيا. ففي مدن مثل دبي والرياض، أدى الطلب على المدن الذكية إلى شراكات بين مطوّري العقارات وشركات التكنولوجيا. تركّز هذه الشراكات على دمج الأجهزة الذكية المتصلة بالإنترنت (IoT) والشبكات الذكية وتحليلات البيانات لتحسين كفاءة المباني والفضاءات الحضرية. هذا التكامل لا يسهم فقط في بناء مدن أكثر ذكاءً، بل يفتح أيضًا آفاقًا تجارية وفرص دخل جديدة لكلا القطاعين.

وبنظرة عالمية، نجد أن التكامل بين التمويل والتكنولوجيا أوجد قطاعًا جديدًا بالكامل: التكنولوجيا المالية (FinTech). هذا القطاع ساهم في تداخل الحدود بين الخدمات المصرفية والتكنولوجيا وخدمات المستهلك. شركات مثل سكوير وسترايب تجاوزت المفهوم التقليدي للخدمات المصرفية، وقدّمت حلولًا لمعالجة المدفوعات وقروضًا للشركات، بل وخدمات العملات الرقمية (Cryptocurrency). هذا التفكير خارج الصندوق المالي المعتاد مكّن هذه الشركات من الوصول إلى أسواق تفتقر للخدمات الكافية، وفتح أمامها مصادر دخل جديدة وفرصًا للنمو.

التحوّل نحو التفكير التكاملي

بات التحول نحو التفكير التكاملي اليوم ضروري لرواد الأعمال الذين يسعون إلى النجاح على المدى البعيد. أولئك الذين يدركون أن مشاريعهم جزء من منظومة أوسع، ديناميكية ومتغيرة باستمرار، سيكونون أقدر على التعامل مع التحديات واستثمار الفرص الجديدة. ومع استمرار تطوّر القطاعات، ستكون الشركات الأكثر نجاحًا هي التي تبني نماذج مرنة ومترابطة تقوم على التعاون بين القطاعات المختلفة. لكن السؤال الأهم يبقى: "كيف يمكن للمؤسسين الاستعداد لمستقبل يصبح فيه التعاون هو القاعدة؟"

الجواب يكمن في تبنّي عقلية تُفضّل الشراكة على المنافسة، والمرونة على الجمود، والابتكار على التقاليد. فالمؤسسون الذين يتعاملون مع بناء الشركات كجزء من منظومة متكاملة سيكونون أكثر قدرة على مواكبة تغيرات السوق، والتوسع بثبات، بل وتولي دور الريادة في قطاعاتهم بدلاً من الاكتفاء بالمشاركة فيها.

Thank you

Please check your email to confirm your subscription.