عربي

استثمارات العائلات الخليجية بين وعود اليونيكورن ومخاطر السيولة

English

استثمارات العائلات الخليجية بين وعود اليونيكورن ومخاطر السيولة

تلعب مكاتب الاستثمار العائلي اليوم دورًا محوريًا في مشهد الاستثمار بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، غير أن استراتيجياتها تشهد تحولات سريعة لا تخلو من المخاطر. ومن خلال هذه السلسلة نسلط الضوء على أبرز ملامح هذا التحوّل،

لنرسم صورة أوضح للدور المتغير للثروات العائلية في دعم اقتصاد الابتكار بالمنطقة.

تتجه أنظار مكاتب الاستثمار العائلي بشكل متزايد نحو شركات شركات بناء المشاريع الناشئة (Venture Studios) والتقنيات العميقة (Deeptech)، حيث تلتقي الثروات الموروثة بالطموح الريادي. ورغم الوعود الكبيرة بالوصول السريع إلى ابتكارات ثورية قد تعيد تشكيل أسواق كاملة، فإن الطريق ليس بلا عقبات. فبدون انضباط وخبرة كافية قد تنجرف هذه المكاتب خلف سرديات لامعة تبدو مغرية، لكنها غالبًا ما تبتعد بها عن هدفها الأهم: بناء محافظ استثمارية قوي ومرنة قادرة على مواجهة التقلبات.

بين الوعود الكبيرة والتحديات الخفية

تقدّم شركات بناء المشاريع الناشئة(Venture Studios)  سردية مغرية: المشاركة الفعلية في تأسيس الشركات الناشئة، والحصول على حصص مبكرة في الأسهم، مع فرصة لصناعة الشركة الناشئة المليارية القادمة "اليونيكورن" منذ اليوم الأول. لكن خلف هذا البريق تكمن مخاطر خفية لا يدركها كثيرون.

يقول كريستوفر أو، وهو مستشار لمكاتب استثمار عائلي كبرى: "غالبًا ما تُقنع العائلات بفكرة لعب دور المؤسّس المشارك وامتلاك حصص أكبر من الأسهم، لكن التحديات تظهر لاحقًا. فإذا كانت شركة بناء المشروع تمتلك 30% أو أكثر من أسهم الشركة الناشئة من دون أي مشاركة فعلية في إدارتها أو تشغيلها، فإن مستثمري الجولة الأولى (Series A) ينظرون إلى هذه الحصة باعتبارها عبئًا يعرقل الشركة وقد يحدّ من فرصها في جذب تمويل جديد مستقبلًا".

مشكلة توزيع الملكية هذه تمثل مجرد مثال واحد على كيفية سوء تقدير العائلات لتبعات الاستثمار في شركات بناء المشاريع على المدى الطويل. فكثيرًا ما تنجرف هذه المكاتب نحو التركيز المفرط في رهانات استثمارية غير سائلة، ومن دون وضع خطط واضحة لإدارة السيولة. وعندما تتراجع الأسواق أو تتشدد ظروف التمويل، تجد هذه العائلات نفسها مضطرة للخروج القسري من استثماراتها في توقيت غير مناسب.

التقنيات العميقة: إغراء الابتكار وصعوبة التقييم

تستحوذ التقنيات العميقة (Deeptech)  —من الذكاء الاصطناعي إلى التقنيات الحيوية والروبوتات — على خيال المستثمرين حول العالم، لكن الفهم العميق لهذه المجالات ما زال نادرًا. فالعائلات التي تمتلك خلفيات علمية أو هندسية تستطيع أحيانًا الاستفادة من شبكاتها لإجراء فحص دقيق للاستثمارات. أما معظم مكاتب العائلات، فتقيّم استثمارات التقنيات العميقة وفق معايير الأعمال التقليدية المرتبط بشخصية المؤسسين، حجم السوق، وإمكانية التوسع.

يحذّر كريس من هذه المقاربة: "التقنيات العميقة تتحرك في آفاق علمية غير مألوفة، حيث ما زال الكثير منها في مراحل البحث والتجريب، وهو ما يعقّد عملية تقييمها الاستثماري، حتى بالنسبة للمتخصصين الماليين. كثير من العائلات تقول إنها مهتمة، لكن القليل جدًا منها يملك القدرة على تقييم هذه الصفقات بدقة." ويضيف أن هناك اتجاهًا ملحوظًا في الشرق الأوسط وآسيا، حيث تسعى بعض العائلات إلى الحصول على حصص في شركات التقنيات العميقة قبل طرحها للاكتتاب العام، ليس بدافع شغف بالتكنولوجيا، بل طمعًا في تحقيق أرباح سريعة عند الطرح.

ويكمل كريس: "في كثير من الحالات، لا يكون الهدف هو خوض مغامرة تكنولوجية، بل تحقيق أرباح سريعة عند الطرح".

أخطاء شائعة يجب تجنّبها

تقع مكاتب الاستثمار العائلي مرارًا في نفس الفخاخ عند دخولها مجالات شركات بناء المشاريع أو التقنيات العميقة، ومن أبرزها:

  • الخلط بين قلة السيولة وتحمل المخاطر: امتلاك أفق استثماري طويل الأمد لا يعني بالضرورة القدرة على تحمّل استثمارات غير سائلة.
  • التركيز المفرط: ضخ استثمارات كبيرة في قطاعات مثل التكنولوجيا أو العقارات أو الملكية الخاصة، من دون موازنة عبر قطاعات متعددة.
  • إهمال التخطيط للسيولة: غياب الاحتياطي النقدي قد يؤدي إلى بيع الأصول قسرًا أو تفويت فرص استثمارية مهمة.
  • المبالغة في تقدير التنويع: غالبًا ما تتحرك الاستثمارات البديلة بالتوازي مع الأسواق العامة، ما يقلل من تأثيرها الاستقراري.

وكما يشير كريس: "بعد حصول العائلات على سيولة كبيرة، غالبًا ما تستثمر أكثر مما يسمح به مستوى تحمّلها للمخاطر. الثروة يمكن أن تتبخّر سريعًا إذا أُديرت الصفقات المباشرة بطريقة سيئة."

كيف تبني مكاتب العائلات نماذج أكثر كفاءة؟

النجاح في إدارة الثروات العائلية لا يقوم على الرهانات الكبيرة بقدر ما يعتمد على إتقان التفاصيل. تبدأ المكاتب الأكثر كفاءة برسم خريطة شاملة للتدفقات النقدية: من الإيرادات والأرباح الموزعة، إلى النفقات والالتزامات المستقبلية. هذه الخريطة ليست مجرد أداة تنظيمية، بل هي الركيزة التي يقوم عليها أي إطار استثماري ناجح.

لكن الإدارة الذكية لا تتوقف هنا، إذ تتجه هذه المكاتب بشكل متزايد إلى الاستعانة بمستشارين مستقلين يمتلكون خبرة واسعة وشبكات علاقات قوية، والأهم من ذلك: القدرة على تحدي التحيزات الداخلية للعائلة. والنتيجة هي قرارات أكثر وعيًا وتوازنًا.

من الصفقات المباشرة إلى الشراكات الاستراتيجية

تبدو الصفقات المباشرة خيارًا جذابًا لمكاتب العائلات، لكنها تتطلّب انخراطًا فعليًا في إدارة الاستثمارات ومتابعتها عن قرب. فمجرد بضع صفقات ضعيفة التقييم قد تؤدي إلى تآكل الثروة بسرعة. ولهذا يتجه التوجه الاستثماري تدريجيًا نحو بناء محافظ أكثر تنوعًا، من خلال الاستثمار في صناديق متخصصة وإقامة شراكات استراتيجية.

كما توسّع العائلات نطاقها نحو الائتمان الخاص والشراكات العابرة للحدود وشبكات المستثمرين، إدراكًا منها أن أفضل الفرص غالبًا ما تصل لمن يملكون العلاقات الصحيحة.

ويذكّرنا كريس: "العائلات التي تنجح هي تلك التي تطرح الأسئلة الصعبة، وتحيط نفسها بالخبراء، وتتحلّى بالشجاعة للاعتراف بما لا تعرفه."

مستقبل استثمار مكاتب العائلات

بالنسبة إلى مكاتب الاستثمار العائلي، تمثل شركات بناء المشاريع والتقنيات العميقة فرصًا واعدة، لكنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر كبيرة. فالنجاح هنا لا يقوم على مطاردة كل جبهة استثمارية جديدة، بل على التخطيط الدقيق، والتحلّي بالتواضع المعرفي، والاعتماد على خبرات موثوقة.

مستقبل استثمارات مكاتب العائلات لن تحدده الضجة الإعلامية أو الرهانات السريعة، بل ستصنعه القدرة على بناء هياكل استثمارية مرنة وقادرة على مواجهة تقلبات الأسواق ومواكبة دورات الابتكار دون الانجراف وراء السرديات البراقة.

___________________________________________________________________________________________________________________________

يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة متواصلة نسلّط فيها الضوء على كيفية تفاعل مكاتب الاستثمار العائلي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مع صناديق رأس المال المغامر ورأس المال الخاص وأشكال التمويل البديلة. ترقّبوا المزيد من التحليلات خلال الأسابيع المقبلة.

Thank you

Please check your email to confirm your subscription.