English

الإمارات تعيد تشكيل مشهد التمويل المفتوح في المنطقة من خلال "نبراس"

English

الإمارات تعيد تشكيل مشهد التمويل المفتوح في المنطقة من خلال "نبراس"

مقال بقلم توفيق قسيس، الرئيس التنفيذي للمنتجات والتكنولوجيا في شركة Lean Technologies

عادةً ما تتطور الابتكارات المالية بخطوات صغيرة ومتدرجة، لكن الإمارات اختارت طريقًا مختلفًا تمامًا. فمع إعلان البنك المركزي الإماراتي رسميًا ترخيص مزوّدي خدمات التمويل المفتوح (Open Finance) ضمن إطار "نبراس" (Nebras)، أطلقت الدولة مشروعًا بحجم وطموح يضعها في مصاف الدول الرائدة عالميًا مثل المملكة المتحدة وسنغافورة.

وتقدّر شركة McKinsey أن هذا التحول يمكن أن يضيف ما بين 1 إلى 5% للناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، أي ما يعادل 80 إلى 90 مليار درهم من القيمة الاقتصادية الإضافية. كما يدعم هدف الإمارات بأن يشكّل الاقتصاد الرقمي نحو 20% من ناتجها غير النفطي خلال السنوات المقبلة.

إطلاق دولة الإمارات إطار تمويل مفتوح شامل في هذا التوقيت يحمل دلالة مهمة. فبينما قضت أسواق أخرى سنوات في اختبار أنظمة لتحويل الأموال مباشرة من حساب إلى حساب (Account-to-Account Payment Rails) أو أنظمة محدودة لتبادل البيانات المالية (Limited Data-Sharing Schemes)، أطلقت الإمارات منظومتها "نبراس" منذ البداية بإمكانات متقدمة تمنح الدولة انطلاقة قوية نحو بنية مالية رقمية حديثة.

فرصة عالمية بمليارات الدولارات

في الاقتصادات الكبرى حول العالم، تُعيد البيانات المفتوحة تشكيل الخدمات المالية بسرعة تفوق كل التوقعات. وتشير تقديرات Accenture إلى أن تحرير البيانات المالية وجعلها أكثر ترابطًا وذكاءً يمكن أن يخلق فرص إيرادات جديدة بقيمة 416 مليار دولار. كما يُتوقع أن ينمو حجم سوق المصرفية المفتوحة عالميًا من 31.6 مليار دولار في 2024 إلى أكثر من 135 مليار دولار بحلول 2030، بمعدل نمو سنوي يقارب 28%.

بالنسبة للإمارات ودول مجلس التعاون، لا يُعدّ هذا التطور مجرد ابتكار في قطاع مالي محدد، بل هو تحوّل اقتصادي شامل. فإطار التمويل المفتوح يتيح ظهور فئات جديدة من الخدمات والصناعات ونماذج الأعمال تتجاوز المؤسسات المالية التقليدية، ويؤسس لبنية تحتية تربط الاقتصاد بأكمله، حيث تتحرك المدفوعات والإقراض والتأمين والتحويلات عبر الحدود بسرعة وأمان وذكاء غير مسبوقين.

انطلاقة تتخطى المعايير العالمية

جاء إطلاق إطار "نبراس" بقدرات تفوق ما تطلّب من أسواق مثل المملكة المتحدة وأوروبا أكثر من عقد لتطويره تدريجيًا، فميزة المدفوعات المتكررة المرنة، مثلًا، لن تقتصر على الاشتراكات الدورية، بل ستفتح المجال لاستخدامات أوسع تشمل المدفوعات الفورية والادخار التلقائي وإدارة التدفقات النقدية بشكل ديناميكي.

أما خاصية المصادقة القوية المفوّضة للعملاء (Delegated Strong Customer Authentication) فستقلل من عناء تسجيل الدخول المتكرر، إذ تسمح للمستخدم بإنشاء جلسة واحدة آمنة يمكن استخدامها لدى عدة تجار في الوقت نفسه. كذلك، تُتيح البيانات المفتوحة في قطاع التأمين (Open Insurance Data) للمقرضين بناء ملفات مالية أكثر شمولًا، بدلًا من الاعتماد فقط على بيانات الحسابات البنكية، مما يخلق فرصًا لتقديم منتجات مالية فائقة التخصيص.

ومنذ البداية، يتضمن "نبراس" ميزة المدفوعات عبر الحدود، وهي عنصر حاسم في اقتصاد يعتمد على التجارة وتدفقات الاستثمار والتحويلات. وبينما صُممت الأطر الأخرى أساسًا لتغطية الخدمات المصرفية المحلية للأفراد، يعكس "نبراس" موقع الإمارات كمركز مالي إقليمي ودولي متكامل.

تأثير مباشر على الأعمال والمستهلكين

تتضح الآثار الاقتصادية للتمويل المفتوح عند النظر إلى حالات الاستخدام الواقعية. فـالشركات الصغيرة والمتوسطة (SMEs)، التي تمثّل نحو 94٪ من الشركات في الإمارات — لكنها لا تحصل إلا على جزء محدود من القروض الإقليمية — ستكون من أبرز المستفيدين. إذ تتيح تقنيات التقييم الائتماني الفوري القائم على التدفقات النقدية للمموّلين إصدار قرارات القرض في غضون ساعات بدلًا من أسابيع. وفي المملكة المتحدة، سجّل المقرضون الذين استخدموا بيانات الخدمات المصرفية المفتوحة (Open Banking) معدلات موافقة أعلى بنسبة 60٪ ودقّة أكبر في قرارات الائتمان وصلت إلى 90٪ مقارنة بالطرق التقليدية.

ويشمل التحوّل أيضًا قطاع التجزئة والتجار. فاليوم يدفع معظم التجار رسومًا تتراوح بين 2 و3٪ على عمليات بطاقات الدفع وينتظرون أيامًا لتسوية المعاملات. بينما يمكن لمدفوعات الخدمات المصرفية المفتوحة أن تخفّض هذه الرسوم إلى أقل من 1٪، وتُسَوَّى فورًا، وتلغي تمامًا مشاكل استرجاع الأموال بسبب الاحتيال (Chargebacks) بفضل المصادقة القوية للعملاء (Strong Customer Authentication). ولتاجر يُدير مبيعات سنوية بنحو 10 ملايين درهم، قد يوفّر التاجر ما يصل إلى 770 ألف درهم سنويًا مع تحسين السيولة وإدارة التدفق النقدي.

أما المستهلكون، فسيرون فوائد ملموسة هم أيضًا. ففي الأسواق التي نضجت فيها الخدمات المصرفية المفتوحة، انخفضت تكاليف الاقتراض بنسبة تتراوح بين 15 و30%، بعدما بدأ المقرضون بتسعير القروض استنادًا إلى السلوك المالي الفعلي بدلًا من درجات الائتمان الثابتة. كما تساعد أدوات الادخار التلقائي (Automated Savings Tools) وتطبيقات إدارة المال الشخصية الأسر على توفير الوقت والمال معًا. حتى التحويلات المالية – التي يدفع العاملون عليها عادة بين 3 و6% كرسوم – يمكن أن تصبح أسرع وأرخص عبر التحويلات المباشرة من حساب إلى حساب التي تُنفَّذ في ثوانٍ معدودة.

هذه التغيّرات تُظهر أن التمويل المفتوح لا يقتصر على رقمنة العمليات التقليدية، بل يعيد تشكيل النظام المالي بأكمله.

دروس من تجارب عالمية

تُظهر تجربة المملكة المتحدة كيف يمكن لتبنّي الخدمات المصرفية المفتوحة أن يتسارع حين تتكامل البنية التحتية والتشريعات وحوافز القطاع المالي. فاليوم يستخدم واحد من كل خمسة مستهلكين بريطانيين الخدمات المصرفية المفتوحة، بعد أن كانت النسبة واحدًا من كل سبعة عشر فقط عام 2021. هذا النظام يعالج أكثر من 30 مليون عملية دفع شهريًا، ويدعم آلاف شركات التكنولوجيا المالية، كما يساهم بمليارات الجنيهات في الاقتصاد سنويًا.

أما سنغافورة فتقدّم نموذجًا آخر يجمع بين وضوح التنظيم والتعاون بين القطاعين العام والخاص، إذ سمح إطارها التنظيمي للبنوك التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية بتطوير حلول مشتركة بدل التنافسية المباشرة، مما سرّع تبنّي المستهلكين ودفع عجلة الابتكار.

وتستفيد الإمارات من التجربتين معًا، لكنها تمضي أبعد منهما بإطلاق إطار موحّد يضم قدرات وتقنيات طوّرتها الأسواق الأخرى على مراحل متفرقة.

بناء الاقتصاد الرقمي

يوفّر التمويل المفتوح البنية التحتية اللازمة لتحقيق رؤية "نحن الإمارات 2031" (We the UAE 2031)، التي تستهدف مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 3 تريليونات درهم. ويتيح التمويل المدمج (Embedded Finance) للشركات في قطاعات مثل الرعاية الصحية واللوجستيات والتجزئة دمج الخدمات المالية مباشرة في منصّاتها التشغيلية، بينما تتيح الامتثال الضريبي الفوري (Real-Time Tax Compliance) تقليل الأعباء الإدارية على الشركات وتحسين دقّة التقارير المالية.

كما ستصبح نماذج التسعير الديناميكي (Dynamic Pricing Models) أكثر قابلية للتطبيق في قطاعات التأمين والإقراض والمرافق، بحيث تتوافق الأسعار مع السلوك الفعلي والمخاطر في الوقت الحقيقي. وتدعم البنية نفسها أدوات مالية تنبؤية وتسهيلات ائتمانية تلقائية ومنصّات مشتريات وتمويل متكاملة تعزّز الكفاءة على مستوى الصناعات كافة.

الأمان والثقة في قلب المنظومة

يقف الأمان والثقة في صميم كل ما يقدّمه إطار "نبراس". فحتى الآن، أظهرت الخدمات البنكية المفتوحة (Open Banking) معدلات احتيال أقل بكثير من معاملات البطاقات التقليدية. ويعزّز "نبراس" هذا التفوّق من خلال دمج البنية الوطنية للهوية الرقمية وسجلات تدقيق مدعومة بتقنية البلوكتشين (Blockchain-Backed Audit Trails)، إلى جانب آليات الموافقة الصريحة (Explicit Consent Frameworks) التي تمنح العملاء رؤية كاملة وتحكمًا مباشرًا في بياناتهم.

وبدمج الرقابة التنظيمية القوية مع البنية التحتية الرقمية الحديثة، ينجح الإطار في حماية المستهلكين من دون أن يعيق الابتكار، بل يتيح له النمو والانتشار على نطاق واسع.

من البنية إلى الريادة

تقف الإمارات اليوم عند نقطة تحوّل استراتيجية، فالبنية التحتية جاهزة والتشريعات واضحة والطلب قائم. وتُظهر تجارب الأسواق الأخرى أن من يبادر أولًا يصبح القائد لاحقًا، بينما يدفع المتأخرون ثمن البطء بتكاليف أعلى وإجراءات أبطأ.

يُعدّ التمويل المفتوح واحدًا من أكبر التحولات في قطاع الخدمات المالية منذ ظهور الخدمات البنكية عبر الإنترنت، ومع إطلاق "نبراس"، تمتلك الإمارات فرصة حقيقية للمشاركة في رسم ملامح هذا التحوّل على المستوى العالمي.

شكرا

يرجى التحقق من بريدك الالكتروني لتأكيد اشتراكك.