عربي

الأرباح لا تعنى السيولة.. الفخ الذى يقع فيه كثير من المؤسسين

English

الأرباح لا تعنى السيولة.. الفخ الذى يقع فيه كثير من المؤسسين

مقال بقلم معتز مخيمر، مستشار استراتيجي ومالي

يُولي كثير من مؤسسي الشركات الناشئة اهتمامًا بالغًا ببيان الدخل، ويعتبرونه المرجع الأبرز في قياس وتقييم الأداء المالي لشركاتهم. وبالفعل، فهو واحد من أهم ثلاثة تقارير مالية تعتمد عليها الشركات، إلى جانب الميزانية العمومية وبيان التدفقات النقدية، ويُظهر حجم الدخل الذي حققته الشركة خلال فترة معينة. لكن في الواقع، بيان الدخل لا يقدّم الصورة الكاملة، وقد يكون الاعتماد عليه وحده خادعًا.

دعوني أوضح أكثر..

الإيرادات ليست دائمًا نقدًا في جيبك

يبدأ بيان الدخل دائمًا برقم الإيرادات، وهو الرقم الذي يثير حماسة الجميع عادة. لكن من المهم أن ندرك أن الإيرادات لا تعني تلقائيًا وجود سيولة فعلية. فمجرد أنك حققت دخلًا لا يعني أنك استلمته بالفعل. في قطاعات مثل البناء والبرمجيات كخدمة (SaaS) والتجارة بالجملة، من الشائع تسجيل الإيرادات قبل أشهر من تحصيلها الفعلي. وهنا تظهر الحسابات المدينة (Accounts Receivable)، لكنها لا تظهر في بيان الدخل، بل تُسجّل في الميزانية العمومية. لهذا، قد يبدو أداء شركتك رائعًا من حيث الإيرادات، بينما هي في الواقع تعاني من شح السيولة.

نظريًا، هذا ليس خطرًا كبيرًا. فكثير من الشركات تضطر إلى جمع تمويل لمجرد تغطية الفجوة الزمنية بين تنفيذ المشروع وتحصيل المقابل المالي. وتُعرف هذه الحالة باسم أزمة رأس المال العامل (working capital crunch)، وهي قادرة على قتل أي مشروع نامٍ أسرع مما تفعل قلة الطلب.

إن هذا التباين بين توقيت تسجيل الإيرادات وتحصيلها الفعلي من أخطر الفخاخ التي تقع فيها الشركات سريعة النمو.فأنت تتوسع وتُضيف عملاء وربما توظّف المزيد من الموظفين، لكن النقد ببساطة لم يدخل بعد. وبحلول الوقت الذي تكتشف فيه المشكلة، قد تكون وقعت بالفعل في أزمة سيولة حادة.

حين لا تعكس الأرباح وضع السيولة

ليست كل المصروفات التي تظهر في التقارير المالية تُعبّر عن خروج فعلي للسيولة. الاستهلاك (Depreciation) مثال على ذلك. فهو يُسجَّل كمصروف يُقلل من صافي الأرباح، لكنه لا يتضمن أي حركة نقدية فعلية. ببساطة، تقوم المحاسبة بتوزيع تكلفة الأصل (مثل جهاز أو آلة) على فترة استخدامه، وهي حيلة محاسبية مفيدة في التقارير، لكنها لا تعكس حركة السيولة الفعلية في الشركة.

لذلك، إذا بدا صافي أرباحك منخفضًا، لا تسارع إلى القلق. فقد تكون شركتك في وضع مريح من حيث السيولة، وهو ما يضمن قدرتها على الاستمرار والنمو.

الفروقات الزمنية تُشوّه الواقع

يعمل بيان الدخل وفق ما يُعرف بأساس الاستحقاق المحاسبي، أي أنه يُسجّل الإيرادات والمصروفات في الفترة التي تحدث فيها، بغض النظر عن توقيت دخول أو خروج الأموال فعليًا من الشركة. قد يبدو هذا الأسلوب منطقيًا من الناحية النظرية، لكنه في الواقع يخلق فجوة بين الأرقام والسيولة الحقيقية. فقد تنفق الشركة مبالغ كبيرة في ربع مالي معين، بينما تُسجّل الإيرادات المرتبطة بتلك النفقات في ربع لاحق – أو العكس. وفي كلتا الحالتين، تصبح الصورة غير مكتملة، خصوصًا إذا تم النظر إلى فترة مالية واحدة من دون سياق أوسع.

فعلى سبيل المثال، قد تؤدي نفقات كبيرة لمرة واحدة إلى انخفاض مفاجئ في أرباح هذا الربع، رغم أن أداء الشركة السنوي ككل جيد. ومن دون هذا السياق، قد تتخذ الشركة قرارات متسرعة مثل خفض النفقات أو تقليص الاستثمار من دون حاجة حقيقية.

هل علينا إذًا أن نتخلى عن استخدام بيان الدخل؟

الإجابة ببساطة: لا.

فبيان الدخل لا يزال أداة قوية -خاصة عند إجراء المقارنات. فهو يُتيح لك تقييم أداء شركتك مقارنةً بالشركات الأخرى في نفس القطاع باستخدام مؤشرات مالية موحدة. على سبيل المثال، إذا أخبرتك أن إيرادات شركتي نمت بنسبة 15%، قد يبدو ذلك ممتازًا. لكن إن كانت معظم الشركات الأخرى قد حققت نموًا بنسبة 25%، تتغيّر القراءة تمامًا. كذلك يمنحك البيان رؤية أوضح لكيفية إنفاقك.

فالتمييز بين تكلفة البضائع المباعة (COGS) والمصروفات التشغيلية يُعد أمرًا جوهريًا. فإذا كان هامش الربح الإجمالي جيدًا، لكن هامش الربح الصافي ضعيف، فقد تكون تُنفق كثيرًا على الإدارة أو التسويق أو التوظيف، وهي قرارات إدارية لا مشكلات إنتاجية.

هيكل بيان الدخل أيضًا يُساعدك على فهم الربحية بمستوياتها المختلفة -الربح الإجمالي، والربح التشغيلي، والربح الصافي -وكل منها يروي جانبًا مختلفًا من القصة. فهامش الربح الإجمالي يُساعدك على تقييم استراتيجية التسعير وكفاءة الإنتاج، بينما هامش الربح التشغيلي يكشف مدى كفاءة أو ترهّل العمليات التشغيلية. أما هامش الربح الصافي، فيجمع الصورة كلها -لكن مع ضرورة فهم ما يقف وراءه من تفاصيل.

البوصلة الحقيقية: بيان التدفقات النقدية

هل أنت مؤسس شركة أو مدير تنفيذي وتسعى للحفاظ على زمام الأمور؟

إذن لا تنشغل بالأرباح المحاسبية وحدها، بل وجّه تركيزك نحو السيولة. كم من الأموال تدخل شركتك؟ من أين تأتي؟ وكم منها يخرج؟ هذه الأسئلة يجيب عنها بيان التدفقات النقدية، وهو المرآة الأكثر صدقًا لوضع شركتك المالي. في النهاية، الربح مجرد مفهوم نظري، أما السيولة فهي الحقيقة التي تُبقي شركتك على قيد الحياة.

بيان التدفقات النقدية يُجيبك عن أسئلة مصيرية: هل نُولّد ما يكفي من النقد من عملياتنا لتغطية نفقاتنا؟ هل نعتمد بشكل مفرط على التمويل الخارجي؟ هل نستثمر أموالنا بحكمة؟ كل هذه الإجابات لن تجدها في بيان الدخل.

ولنكن واضحين، ما يبحث عنه المستثمرون هو النقد. وفي ظل أسواق مضطربة، إن لم تكن تراقب مؤشرات مثل معدل الحرق النقدي والفترة الزمنية التي يمكن لشركتك الصمود فيها قبل أن تنفد السيولة، فأنت لا تُدير أموالك، بل تُقامر بها.

كلمة أخيرة

لا شك أن كل بيان مالي له أهميته. لكن لا تقع في فخ الاعتماد الكامل على بيان الدخل، فهو يروي جزءًا فقط من القصة، وغالبًا أجمل أجزائها. أفضل الرؤساء التنفيذيين الذين تعاملت معهم يدركون هذا جيدًا. فهم يستخدمون البيانات الثلاثة معًا ويفهمون العلاقة المعقّدة بينها، لكنهم يعرفون أيضًا أن من يريد فهم القوة الحقيقية لأي شركة واتخاذ قرارات ذكية، عليه أن يبدأ من بيان التدفقات النقدية - فهناك تكمن القصة الحقيقية.

لذا، في المرة القادمة التي يُلوّح فيها أحدهم بأرقام الأرباح أمامك، ابتسم بأدب واطلب أن ترى بيان التدفقات النقدية. فالإدراك المالى الذكى يبدأ من النقد، لا من الأرباح.

Thank you

Please check your email to confirm your subscription.