English

كيف يعيد الانضباط الرقمي تشكيل بيئة الأعمال في المنطقة؟

English

كيف يعيد الانضباط الرقمي تشكيل بيئة الأعمال في المنطقة؟

مقال لـ أندريه فيدوروف، مؤسس شركة Velter

عندما حضرت أول اجتماع عمل لي في دولة الإمارات، فوجئت بشيء غير مألوف. الطاولات كانت تحوي دفاتر ملاحظات وأكواب قهوة فقط -لا هواتف ذكية، ولا أجهزة حاسوب. في البداية، ظننت أن الأمر مجرد جزء من بروتوكول الضيافة العربية. غير أن شريكًا في إحدى شركات الاستثمار الخاص أوضح لي قائلًا: "نقيس الأشخاص بمدى انضباطهم الرقمي. إذا رأيت هاتفك، أراك شخصًا لا يملك السيطرة على انتباهه."

قاعات الاجتماعات بلا تشتيت

لم تعد هذه الفلسفة مجرّد تقليد ثقافي، بل تحوّلت إلى قوة حقيقية. فالشرق الأوسط لم يكتفِ بتبنّي "الانضباط الرقمي"، بل طوّره إلى أداة استراتيجية. لكن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن سهلًا، فقبل خمس سنوات فقط، كانت هواتف البلاكبيري تهيمن على مشهد الأعمال في الخليج.

أما اليوم، فإذا دخلت مقرًّا لإحدى كبرى الشركات، ستجد مشهدًا مختلفًا تمامًا:

  • طوابق كاملة صُممت كمناطق يُحظر فيها استخدام الأجهزة الرقمية.
  • هواتف وأجهزة مغلقة محفوظة داخل صناديق عازلة للإشارات (كبسولات فاراداي)، مما يحميها من الاختراقات الإلكترونية.
  • اتفاقات عمل تتضمن بنودًا عقابية عند حدوث مقاطعات رقمية غير مبررة. 
  • اجتماعات مجلس الإدارة تُعقد في ظل إغلاق تام لكافة الأجهزة الإلكترونية.

لذلك، لم يعد امتلاك الحواسيب الباهظة هو عنوان الرفاهية في بيئة العمل، بل أصبحت القدرة على الانفصال عن الأجهزة هي الرفاهية الحقيقية. وهذا الانفصال ليس مجرد توجه تجريبي اعتمده التنفيذيون الإماراتيون، بل أثبت تأثيره الإيجابي المباشر على الإنتاجية.

تشير الأبحاث بانتظام إلى أن ممارسات "الانضباط الرقمي" واستعادة التركيز تسهم في تعزيز الكفاءة وتقوية الانتباه.فعلى سبيل المثال، أظهرت تجربة بسيطة تعتمد تفعيل وضع "عدم الإزعاج" لمدة 24 ساعة فقط، تحسنًا ملحوظًا في الإنتاجية وتراجعًا في مستويات التوتر. أما الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي لمدة أسبوعين، مع تحديد الاستخدام اليومي بـ30 دقيقة، فقد ارتبط بتحسن جودة النوم، وارتفاع مستويات الرضا عن الحياة، وانخفاض الشعور بالضغط النفسي.

تغيير ثقافة العمل يبدأ من السلوكيات اليومية

الابتكار الحقيقي لا يكمن في منع استخدام التكنولوجيا، بل في تغيير أنماط الاستخدام وتعديل سلوك العاملين. هذا ما تسعى إليه العديد من الشركات في دبي وأبوظبي، مستهدفين إعادة تشكيل عادات الموظفين داخل بيئة العمل، لا مجرد إبعاد الأجهزة.ولهذا تتبنى هذه الشركات نهجًا مستمدًا من تجارب عالمية أثبتت فعاليتها.

فعلى سبيل المثال، شركة فولكسفاغن الألمانية كانت من أوائل المؤسسات التي طبّقت "الحق في الانفصال"، حيث تم قطع الوصول إلى البريد الإلكتروني تلقائيًا خارج أوقات الدوام. أما التحوّل الأعمق، فنجده في انتشار ما يُعرف بـ "مساحات الراحة الرقمية" في أوروبا، وهي أماكن هادئة مصمّمة من دون شاشات تسمح للموظفين باستعادة صفائهم الذهني. اليوم، تعتمد 38% من مكاتب لندن وستوكهولم هذا النموذج. حتى المؤسسات المالية الكبرى مثل وول ستريت تبنّت هذا التوجه، فقد أطلقت "غولدمان ساكس" مبادرة "جمعة بلا شاشات"، إذ خُصّصت أيام الجمعة للعصف الذهني والعمل بعيدًا عن الأجهزة، وقد ساهم ذلك في التخفيف من إرهاق العمل وتحسين جودة الأداء في أقسام التداول.

يمكن ملاحظة هذه التوجهات مطبّقة بالفعل في الإمارات. فعلى سبيل المثال، أنشأت هيئة كهرباء ومياه دبي (DEWA) ما غرفًا مخصصة للتركيز والعمل الهادئ، تتيح للموظفين إنجاز مهامهم من دون تشويش أو مقاطعات، وتُستخدم أيضًا لعقد اجتماعات أكثر فاعلية. كما أطلقت الدولة "مجلس الرفاه الرقمي"، وهو جهة معنية بوضع سياسات تكنولوجية تشجّع على استخدام أكثر وعيًا واتزانًا للتقنية، وتعزز نمط حياة يوازن بين الحضور الرقمي والتفاعل الإنساني اليومي. كل ذلك يعكس مدى جدّية التعامل مع مسألة الانضباط الرقمي في الإمارات، حيث لم يقتصر الاهتمام على الشركات، بل امتد إلى مستوى السياسات الحكومية.

وتؤكد أبحاث حديثة في علم الأعصاب أن فترات قصيرة من الابتعاد عن الأجهزة الرقمية يمكن أن تؤدي إلى تحسّن ملحوظ في وظائف الدماغ. ووفقًا للدراسات، يمكن لثلاثة أيام فقط بدون استخدام الأجهزة أن تعزز القدرة على التذكّر بنسبة 18%، وتُسرّع من مهارات حل المشكلات بنسبة 23%.

وهناك نتيجة صادمة أخرى: أظهرت الدراسات أن الطلاب الذين يستخدمون هواتفهم خلال فترات الاستراحة يسجّلون أداءً أقل بنسبة 22%. والخلاصة قاسية لكنها بسيطة، ففي عالم يحكمه الخوف من تفويت أي شيء، الأفضلية ستكون دائمًا لمن يملك الشجاعة لترك هاتفه جانبًا. وليس الحل في استخدام تطبيقات جديدة أو حيَل ذكية، بل في إعادة بناء ثقافة كاملة في التعامل مع التكنولوجيا.

المستقبل سيكون من نصيب من يعرف متى يتوقّف ويتّصل بنفسه وبمن حوله. أما الآخرون، فسيغرقون في التصفُّح اللا نهائي، غير مدركين أن أفضل أفكارهم، وأذكى من يعملون معهم، ينسحبون بهدوء من دون أن ينتبهوا.

خمس استراتيجيات لتعزيز الانضباط الرقمي في شركتك

قد تتساءل الآن كيف يمكننا تطبيق هذا المستوى من التركيز في بيئة العمل؟

في البداية، من المهم أن نُدرك أن الانضباط الرقمي لا يتطلّب أنظمة معقدة ولا سياسات معادية للتكنولوجيا، بل يقوم في جوهره على تغييرات سلوكية واعية ومدروسة.

فيما يلي خمس ممارسات استوحتها شركات في الشرق الأوسط، ويمكن لأي شركة اعتمادها لإحداث فرق ملموس:

  • تخصيص مساحات خالية من الهواتف أو استخدام حاويات عازلة للإشارات (مثل كبسولات فاراداي)، بهدف الحد من التشتيت. وقد أظهرت الدراسات أن الموظفون الذين يأخذون استراحات بلا أجهزة يحققون أداءً أفضل بنسبة 22%.
  • تطبيق فترات زمنية محددة يُمنع خلالها استخدام الشاشات، بهدف تخصيصها للعمل المُركَّز أو جلسات العصف الذهني. إذ تُظهر دراسات في علم الأعصاب أن هذا النهج القائم على "الساعات التناظرية" يُسهم في تعزيز القدرة على حل المشكلات بنسبة تصل إلى 23%.
  • إيقاف الرسائل غير العاجلة تلقائيًا خارج ساعات العمل، إذ تُظهر الدراسات أن هذا الإجراء يُخفف من مستويات التوتر من دون أن يؤثر سلبًا على الإنتاجية.
  • إعادة تصميم مساحات الاستراحة بما يُعزز الاستشفاء الذهني وتجديد الطاقة، حيث أظهرت البيانات أن 38% من المكاتب الأوروبية التي تبنّت هذا التوجه شهدت تحسنًا في مستويات التركيز لدى موظفيها.
  • فرض حظر كامل على استخدام الأجهزة الإلكترونية أثناء اجتماعات الإدارة التنفيذية. وتُبيّن التجربة الإماراتية أن الالتزام الواضح من كبار المدراء بهذا النهج هو العامل الأسرع في تغيير ثقافة العمل داخل الشركات.

المسألة ليست في بناء نظام مثالي، بل في الالتزام والاستمرارية. ابدأ بساعة واحدة فقط، جرّب، وراقب التغيير، ثم وسّع التجربة تدريجيًا. وتذكًّر أن الانضباط الرقمي لا يعني رفض التكنولوجيا، بل يعني أن نستعيد طريقة أكثر توازنًا وإنسانية في تعاملنا مع العمل.

في الختام..

في منطقة تشتهر بالإيقاع السريع والتوسع المستمر، يبدو أن القادة الذين يتعمّدون التمهّل ويمنحون تركيزهم الكامل لما بين أيديهم هم من يحدّدون معايير النجاح الجديدة. أما الذين لا يغادرون الإنترنت أبدًا، فلن يكون المستقبل في صفّهم. الفرصة ستكون لمن يعرف متى يُغلق جهازه وينسحب من الضجيج الرقمي ويمنح أفكاره مساحة لتنضج.

شكرا

يرجى التحقق من بريدك الالكتروني لتأكيد اشتراكك.